رأي” قرأت أمس مقالاً رائعاً للكاتبة لينا سياوش بعنوان “أوروبا ليست كذبة”، وقد لامسني بعمق. لأنه لا يتحدث عن أوروبا كمكان، بل عن المسافة النفسية والثقافية بين ما جئنا منه وما نعيشه اليوم. هذه المسافة، التي كثيراً ما نتجاهلها، هي التي تصنع الفجوة الكبرى في فهمنا للاندماج.
المقال أشبه بمرآة لما شعرت به منذ أن وطأت قدمي هذا الجزء من العالم. تقول فيه: “أوروبا ليست كذبة، لكنها لا تهمس لك في الأذن أن هذا خطأ، بل تتركك تخطئ، ثم تُحمّلك المسؤولية كاملة”.
المقال هو نص مهم وعميق يعالج قضية مركزية في حياة كل مهاجر: الاندماج في مجتمع جديد مختلف جذريا في ثقافته وقوانينه وقيمه عن المجتمع الذي جاء منه.
الاندماج: من الغربة إلى الوعي
منذ لحظة وصولي إلى أوروبا، قبل 42 عاماً كنت أظن أنني دخلت عالماً مختلفاً تماماً. كل ما سمعته من قبل عن دولة القانون، واحترام الفرد، وكرامة الإنسان، بدا لي في البداية أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع. ثم شيئاً فشيئاً بدأت أكتشف أن هذا “الحلم” حقيقي، لكنه مشروط: مشروط بأن أكون أنا أيضاً جزءًا منه، فاعلاً فيه، لا مجرد متفرج.
حين وصلت إلى السويد، لم أكن غريبًا عن فكرة الغربة. فأنا ابن وطن عرف التهجير السياسي، وعايشت في طفولتي لحظات الخوف على كل من اعتقل، وكل عائلة تم ترحيلها من مدينة إلى قرية، من حلم إلى احتمال، من استقرار هش إلى واقع جديد.
لكن الغربة هنا كانت من نوع آخر. لم تكن خوفًا من الاعتقال، بل حيرة في الفهم. لم تكن ملاحقة أمنية، بل مواجهة مع نظام لا يهادن، لا يتوسط فيه أحد، ولا يتدخل فيه “مقرب من السلطة” أو “ابن العم”.
لا يبدأ الاغتراب عندما تطأ قدماك مطار بلد جديد، ولا يبدأ الاندماج حين تحصل على إقامة أو تتقن اللغة. بل هما رحلتان طويلتان، عميقتان، محفورتان في الذاكرة والوجدان.
الاندماج ليس نقطة وصول، بل عملية مستمرة. لم أفقد هويتي، لكنني لم أعد كما كنت. بتُّ أكثر فهمًا لحدود الحرية، وأكثر وعيًا بمعنى أن تكون إنسانًا مسؤولًا، لا تابعًا ولا خائفًا.
أين تكمن المشكلة؟
حين جئنا إلى هنا، جئنا بحقائب لا تحمل فقط ثيابنا، بل ثقافتنا بأكملها. جئنا بعلاقاتنا الأبوية، بعاداتنا، بخوفنا المزمن من السلطة، بإيماننا أن القانون مطاطي، وأن من لا “ظهر له” يسقط بسهولة.
لكن أوروبا لا تفكر بهذه الطريقة. هنا القانون ليس شخصا، بل منظومة. وهنا يبدأ الصدام.
نحن لم نربَّ في مجتمعات تحتكم إلى المؤسسات والقانون والنظام. بل في بيئات يغلب عليها الصوت الأعلى، أو اسم العائلة، أو سلطة الأب أو الحزب أو الطائفة. لذلك حين نصل إلى بلد يُقدّس الفرد ويُحاسب الجميع بنفس المعايير، نشعر بصدمة.
يعود السبب الى اختلاف القيم بيننا وبين المجتمعات الأوروبية وإلى اختلاف الجذور الثقافية والاجتماعية التي نشأنا فيها. فقد تربّينا في بيئة تُعلي من شأن القيم الجماعية (Kollektivism)، حيث يُنظر إلى التماسك الاجتماعي، والتعاون، وتحقيق أهداف الجماعة على أنها أولويات أساسية لبناء المجتمع. في المقابل، يقوم المجتمع الأوروبي على قيم الفردية (Individualism)، التي تمنح الأولوية لاستقلالية الفرد، وحقوقه، وتحقيق مصالحه الشخصية، حتى لو تعارضت أحيانًا مع مصالح الجماعة.
أتذكر عندما وصلتُ إلى السويد، فوجئت حينما طلب أحد الزملاء أن يُقيَّم عمله بشكل منفصل عن عمل الفريق، رغم أننا كنا نعمل معا على نفس المشروع. بالنسبة لي، كان هذا غريبًا، لأننا في ثقافتنا نميل إلى تقاسم الجهد والنجاح معًا، وننظر إلى الإنجاز الجماعي على أنه أهم من بروز الفرد وحده. هذا الموقف كان من أوائل الدروس التي كشفت لي عمق الفروق الثقافية في النظرة إلى الذات والآخر.
كما قالت الكاتبة في مقالها، لسنا مخدوعين بأوروبا، بل مصطدمين بأنفسنا. نصطدم حين نُفاجأ بأن الأب لم يعد “المرجع الأعلى”، وأن الطفل يملك حقوقاً تفوق ما كنا نعرفه، وأن الأم مطالبة بأن تكون شريكة حقيقية في الحياة، لا مجرد ظل خلف رجل العائلة. هذا التحوّل يُربك العائلة المهاجرة، فيربي الأبناء في مدرستين: منزل يمثل ماضياً متجذّراً، ومدرسة تمثل حاضراً يسبقهم بخطوات.
أوروبا لم تخدعنا، بل نحن من لم نكن مستعدين للفهم. لا لأننا نجهل اللغة فقط، بل لأننا نحمل تصورات مسبقة، وأحياناً خيبات مزمنة، تمنعنا من رؤية الصورة الكاملة.
نعم، هذا ما لم نُربَّ عليه. نحن أبناء مجتمعات فيها الدولة تُختصر في شخص، وفيها الخطأ يُسوّى بكلمة، أو يُغفر بعلاقة، أو يُمحى بالخوف.
يمكن تسليط الضوء على المقال ومدى أهمية عملية الاندماج من خلال النقاط التالية:
1ـ قيمة الاعتراف بالصدمة الثقافية كبداية ضرورية للاندماج
المقال لا يبدأ بإلقاء اللوم على أوروبا أو على المهاجر، بل يعترف أن الصدمة الثقافية حقيقية ومؤلمة، وتنبع من فجوة هائلة بين الخلفية الثقافية للمهاجرين ونظام المجتمع الأوروبي. هذا الاعتراف وحده هو خطوة أولى نحو الفهم، والتأقلم، والاندماج السليم.
هذا النظام لا يستهدف احدا، بل يدعوا لفهمه. بعد التحرر من الخوف… يبدأ الاندماج، لا كتنازل، بل كوعي جديد.
الاندماج لا يبدأ من التكيف، بل من الفهم. أن تدرك أنك في بيئة جديدة لا تشبه ما تعرفه، هو أول الطريق نحو التغيير الذاتي.
2ـ الاندماج ليس ذوبانا او انصهارا… بل مواجهة صادقة مع الذات
ليس المطلوب منا الذوبان او الانصهار في هذا المجتمع، وليس المطلوب ان نفقد هويتنا. بل صارت هويتنا أكثر وعيًا. بتنا نفهم أن عليّنا أن نكون فاعلين، لا متفرجين. مسؤولين، لا تابعين. أن نتعلم قبل أن نشتكي، وأن نقرأ قبل أن نستمع لنصائح من لم يقرأ.
الاندماج لا يعني أن نسلّم بكل شيء، بل أن نعرف أين نقف، وماذا يُنتظر منا، وكيف نستطيع أن نساهم لا أن نتقوقع.
3ـ نقد بنّاء للثقافات الأصلية دون جلد للذات
المقال يتناول بشكل صريح أسباب صعوبة الاندماج، ومنها أننا قادمون من مجتمعات لم تُبنَ على الشفافية أو المؤسسات أو حقوق الإنسان، بل على التراتبية والعلاقات الشخصية. هذا الطرح الجريء لا يهدف إلى التشهير، بل إلى تشخيص المشكلة لبناء وعي جديد.
لكي نندمج لا بد أن نُراجع ما نحمله معنا من بعض المفاهيم قد تعيقوا أكثر مما تحمي.
4ـ الاندماج ليس ذوباناً بل مسؤولية ووعي
في واحدة من أقوى الأفكار التي يطرحها المقال: “أوروبا دولة قانون، لكنها أيضًا دولة مسؤولية”.
فالحقوق مقرونة بواجبات، والحرية لا تعني الفوضى، والمجتمع لا يراقبك، لكنه يحمّلك مسؤولية أفعالك.
الاندماج لا يعني أن تذوب، ولا أن تتنكر لأصلك. بل أن تفهم ذاتك بشكل أعمق، وتعيد ترتيب علاقتك بالقانون، بالمسؤولية، وبالحرية. أن تدرك أن “حريتك” لا تُلغى، لكنها ليست بلا حدود.
المهاجر الناجح هو من يتحول من حالة “التلقي” إلى حالة “التحمل” والمسؤولية.
5ـ أهمية المعرفة كمفتاح للنجاح
يشير المقال بوضوح إلى أن غياب المعرفة هو أول الطريق نحو الوقوع في الأخطاء. فالقوانين لا تُعفى من يجهلها، والمجتمع الجديد لا يعتمد على “المحسوبية (Nepotism) ” أو “التشدد والتعصب” او العناد الذي هو سلوك يتميز بالتشبث بالرأي ورفض الانصياع للأوامر أو التوجيهات، بل على وضوح القواعد وثباتها على الجميع.
الفرق الجوهري بين من يندمج ومن يتعثر، هو المعرفة. أن تعرف القوانين، وأن تفهم ما ينتظره منك المجتمع الجديد. الجهل بالقوانين ليس عذراً هنا، ولا يشفع لك “الخال” ولا “المعرفة” ولا “الواسطة”.
نعم، هذه القوانين صارمة، لكنها واضحة. قاسية أحياناً، لكنها متساوية للجميع. لا أحد يراقبك، لكن كل ما تفعله محسوب عليك. هذا النوع من الحياة يربك من اعتاد أن يكون القانون قابلاً “للتفاوض”.
الاندماج ليس عاطفة، بل معرفة دقيقة بالنظام الذي نعيش فيه.
6ـ مجتمعات المهاجرين… بين الدعم والتضليل
يقول الكثير من الناس الذين التقيت بهم من خلال عملي كباحث اجتماعي وكمدير دائرة الشون الاجتماعية.
يقول البعض: لم يكن محيطنا دائمًا عونًا لنا. بل كنا نسمع نصائح متضاربة:
“لا تتكلم كثيرًا مع المدرسة، ممكن يشتكون عليك.”
“احذر من السوسيال، إذا رفعت صوتك على ابنك ممكن يأخذوه منك.”
كنا نعيش بين عقلين: عقل ما زال خائفا، يشك في كل شيء، ويرى في المؤسسات خطرا، وعقل جديد يحاول أن يفهم، ويعيد تعريف المفاهيم.
يجب علينا ان نختار وأن نتعلم بأنفسنا. أن نقرأ، ونسمع من المصادر الرسمية، ونواجه مسؤولياتنا لا بخوف، بل بعقل واضح.
7ـ مقال يطرح واقعية بلا تهويل أو تبرير
الكاتبة لم تصوّر أوروبا كجنة ولا كجحيم، بل كمكان حقيقي بنظام معقّد، عادل من جهة، صارم من جهة أخرى. هذا التوازن في الطرح يساعد المهاجر على بناء تصور عقلاني عن المجتمع الجديد.
خلاصة: لماذا هذا المقال مهم في سياق الاندماج؟
- لأنه ينقل تجربة ذاتية بصوت ناضج، صادق، وواقعي.
- لأنه يحفّز القارئ المهاجر على التفكير النقدي بمفاهيمه القديمة.
- لأنه يشجّع على التعلم، لا على الانغلاق أو التمرد.
- لأنه يؤسس لفكرة أن الاندماج ليس تنازلاً، بل ترقٍ في الوعي.
من يقرأ هذا النص او المقال بتمعن، يدرك أن الاندماج لا يتحقق ببطاقة إقامة ولا بدورة لغة، بل حين نعيد تشكيل علاقتنا بالمسؤولية، بالقانون، وبأنفسنا
في الختام
ما كتبته لينا سياوش ليس مجرد مقال، بل مرآة صافية علينا أن نحدق فيها جيداً. كل مهاجر في أوروبا مدعو لأن يعيد النظر في مفاهيمه، أن يعيد طرح الأسئلة، لا من باب الشكوى، بل من باب الفهم.
الاندماج ليس قدراً، بل خيار. خيار أن تتحمّل، أن تتعلم، أن تكون جزءاً من مجتمع لا ينتظرك أن تصفق له، بل أن تساهم فيه. أوروبا ليست كذبة… لكنها لن تتحول إلى حقيقة إلا إذا صرنا نحن أيضاً صادقين مع أنفسنا
المقال ذكرني بشيء كنت أنساه أحيانا: أن الغربة ليست فقط عن المكان، بل عن اللغة الجديدة التي علينا أن نتعلمها — لا لغة اللسان، بل لغة القيم، القانون، والعيش المشترك.
أوروبا ليست حلما… بل فرصة. والفرصة لا تعني الراحة، بل التحدي. من يقبله، يندمج. ومن يرفضه، يعيش في بلدين… ولا ينتمي لأيٍّ منهما.
الاندماج علّمني أن الكرامة لا تأتي من الصوت العالي، بل من الموقف الصحيح.
وأن العدل لا يحتاج لمن “تعرف أحدا”، بل يحتاج فقط لأن تعرف حقك… وتطالب به كما يجب.
من بلدك إلى السويد، الرحلة مليئة بالتناقضات، لكنها أيضا غنية بالدروس.
ما كتبته الكاتبة عن أوروبا ليس نظرية، بل واقع أعيشه كل يوم.
أوروبا ليست كذبة، لكنها لا تُهادن.
لا تحب الأعذار، ولا تعترف بالمجاملات.
فيها عدالة، نعم، لكنك وحدك من يجب أن يطالب بها… بعقل لا بعاطفة.
الاندماج ليس نقطة وصول، بل عملية مستمرة. لم أفقد هويتي، لكنني لم أعد كما كنت. بتُّ أكثر فهما لحدود الحرية، وأكثر وعيا بمعنى أن تكون إنسانا مسؤولا، لا تابعا ولا خائفا.
ملاحظة: رغم كل ذلك تبقى عملية الاندماج عملية فردية اعتمادا على خلفية الشخص وامكانياته، ورغبته في الدخول الى مجتمع جديد. ولا ننسى بأن الأنظمة الأوروبية وبضمنها السويد لها أيضا اخفاقات سياسية او تقصير نتيجة أن تجربة الهجرة كانت جديدة في أوروبا. وهذه قضية أخرى يمكن تناولها مستقبلا.
فريد باسيل الشاني
باحث اجتماعي
مقالات الرأي تعبر عن كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24

