رأي/ من الملهم أن نرى، نسمع، ونقرأ عن الديمقراطية كواحدة من أعظم الإنجازات السياسية في تاريخ البشرية، الديمقراطية جاءت نتاجًا لتراكم عقود طويلة من النضال السياسي والإنساني. وعلى مدار التاريخ، مرت بمنعطفات حيوية متباينة، مليئة بالحركية شهدت خلالها فترات من صعود، وهبوط، واستقرار. بدأت كفكرة مثالية حملتها أقلية حالمة تطمح إلى بناء “المدينة الفاضلة”، في وقت كانت أغلبية صغيرة هي من قررت مصير سقراط ونفت أفلاطون لاحقًا. قبلهم، واجه مؤسس الديمقراطية، “كليسثنيس”، تحديات كبرى لتأسيس أول نظام ديمقراطي في التاريخ.
مع مرور الزمن، تطورت الديمقراطية عبر مراحل متعددة، بدءًا بعصر التنوير والثورات الديمقراطية، ومرورًا بتشكيل الديمقراطيات التمثيلية، والنضال الشعبي ضد الاستعمار والديكتاتورية، وصولًا إلى حركات حقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، وقضايا العدالة الاجتماعية. لكن مع ذلك، تواجه الديمقراطية اليوم تحديات كبرى؛ فقد أصبحت غير محصنة وعُرضة للهزات والانتكاسات، مما أتاح فرصة لاستغلالها وتقويضها من الداخل.
على سبيل المثال، استغل هتلر ضعف الديمقراطية غير المحصنة للوصول إلى السلطة، ومهدت ظروف مشابهة الطريق لعودة ترامب إلى المشهد السياسي رغم استبعاده سابقًا. في أوروبا اليوم، تدق نواقيس الخطر مع تنامي نفوذ الأحزاب العنصرية وتصاعد موجات اليمين المتطرف في دول مثل فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والنمسا، والمجر… أما في السويد، فقد استغل حزب “ديمقراطيو السويد” النظام الديمقراطي ليصبح ثالث أكبر حزب في البلاد، حاملاً توجهات عنصرية واضحة. علاوة تأثيره الكبير في البرلمان، أصبح الحزب لاعبًا رئيسيًا يقود الحكومة اليمينية الحالية ويؤثر عليها. وقد بدأ هذا التأثير يظهر من خلال تقويض أسس الديمقراطية وإضعافها من الداخل، وتغيير القوانين بطريقة قد تؤدي إلى عزل السويد عن العالم الخارجي، في مشهد يشبه عزلة كوريا الشمالية.
الديمقراطية: بين التقدم والصيانة المستمرة
رغم التحديات التي تواجهها الديمقراطية اليوم، لا يمكن إنكار ما قدمته من إنجازات وما حققت من إيجابيات عظيمة. فقد ساهمت في تحقيق نسبي للعدالة، ترسيخ حقوق الإنسان، وتكريس سيادة القانون الدولي، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة، والسلام، والاستقرار. كما أنتجت أنظمة ديمقراطية تقدمية رائدة في التضامن الدولي وتعزيز القيم الإنسانية والسلام
ومع ذلك، تبقى هذه المكتسبات بحاجة إلى حماية مستمرة. فالديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي وقالب جامد لأليات عمل ثابتة لا تتطور؛ بل هي عملية ديناميكية تتطلب صيانة مستمرة وتطويرا دائمًا لضمان نتائج جيدة وامتلاك قوة ديمقراطية قادرة على مواجهة التحديات وحمايتها من أعدائها، سواء من الداخل أو الخارج.
الديمقراطية بين المثالية والتحديات الراهنة
أن تكون ديمقراطيًا مثاليًا في زمن الديمقراطيات غير المحصنة، والديمقراطيات الرأسمالية، وديمقراطيات القطيع، وديمقراطيات الهويات والإثنيات، وديمقراطيات المزيفة، والديمقراطيات العرجاء، والديمقراطيات الشائخة، الديمقراطيات المتكاسلة، والديمقراطية الفيودالية العصرية، والديمقراطيات المخترقة، والديمقراطيات المعزولة، وديمقراطيات منطق القوة الواقعية السائدة اليوم، هو تحدٍّ مكلف للغاية للنظام الدولي وللإنسانية على حد سواء.
قبل السعي إلى تحقيق “الأممية الديمقراطية”، يجب أن يبدأ التركيز على بناء المجتمعات لتكون محصنة ديمقراطيًا، و تأهيلها وزيادة وعيها بالآليات الديمقراطية الحديثة التي تعزز قيم العدالة والمشاركة السياسية. وفي الوقت ذاته يتطلب ذلك تطوير القوانين والتشريعات، وتفعيل المؤسسات، ومنظومة القضاء والمحاكم، لتكون الحارس فعالا للديمقراطية، بما يضمن حمايتها ليس فقط من أعدائها الخارجيين، بل أيضًا من تناقضاتها الداخلية.
الديمقراطية والواقع الدولي من المثالية الصرفة إلى منطق القوة
لو كانت الديمقراطية حقا، كما تقدم لها في المناهج الدراسية وخطابات السياسيين الرنانة، كنموذج المثالي، لما كان مصير العالم يُقرر من قبل خمس دول فقط. من السذاجة الاعتقاد بأن صناعة هذه القرارات تُدار بنزاهة ديمقراطية مثالية، لأن السياسة الواقعية هي المنطق السائد في العلاقات الدولية. وهذا المنطق مبني على الصراع والفوضى، وأسس القوة، والهيمنة، والمصالح، والنفوذ.
ولو كانت الديمقراطية حقا هي السلطة المطلقة والمهيمنة على المشهد السياسي الدولي، وكان لالتزام بمواد ميثاق الأمم المتحدة هو القاعدة الثابتة وأساس الحكم، لما شهد العالم الحروب والمآسي والديكتاتوريات. لربما حلت قضايا تصفية الاستعمار العالق من سنين، مثل قضية الصحراء الغربية وفلسطين، ولتوقف الدول الأقوى عن غزو الدول الأضعف وانتهاك سيادة القانون الدولي والسيادة. لهذا السبب، أتبنى رؤية واقعية وبراغماتية لتحليل الواقع، رؤية تسعى لفهم المعطيات كما هي، مع توظيف التفكير الاستراتيجي والاستشرافي لصياغة تصور لمستقبل أكثر عدالة وديمقراطية.
خاتمة: نحو ديمقراطية واقعية ومحصّنة
انطلاقًا مما سبق، يمكننا الاستنتاج أن الديمقراطية غير المحصنة ليست نظامًا مثاليًا لإدارة الشعوب وتحقيق حكم عادل ومستدام. على الرغم من قدرتها على جذب الجماهير واستقطابهم، إلا أنها تظل عُرضة للاستغلال والاختراق من قِبل أعداء الديمقراطية.
لذلك، الديمقراطية ليست نظامًا ثابتًا أو مكتملًا، بل هي عملية ديناميكية مستمرة تتطلب تجديدًا وتطويرًا دائمين. يجب أن تكون في حركية دائمة لتعزيز وتجديد آلياتها وتحصين مناعتها ضد اختراقات “القطيع” ومناهضي الديمقراطية، سواء من خلال عمليات الصيانة من أعلى إلى أسفل أو العكس. الديمقراطية القوية هي تلك التي تتمتع بآليات مرنة متجددة وحصينة قادرة على نقد نفسها لتكيف والصمود أمام تحديات العصر وتناقضاته.
من وجهة نظري كديمقراطي واقعي، أؤمن بالديمقراطية المحصنة وأحلل العلاقات الدولية من منظور براغماتي يعتمد على الواقع والمنطق السائد في العلاقات الدولية. وأطلق رؤيتي بناءً على مصلحة السويد ومستقبلها مع مراعاة خطها السياسي وإمكاناتها وموقعها الاستراتيجي، بالإضافة إلى قدراتها وطموحاتها وأهدافها وتحالفاتها، وذلك في ظل عالم متغير وغير مستقر يتسم بالاستقطاب والتجاذبات السياسية والاقتصادية، الى جانب اختلال ميزان القوى، ومعضلة الديمقراطية، وتنامي موجات اليمين المتطرف عالميًا.
أعتقد أن السويد اليوم يجب أن تكون في عمق الأحداث وفي مركز صناعة القرار. يتعين عليها استغلال موقعها الحالي ما دامت داخل الملعب والساحة السياسية؛ لأنه إذا أردنا تغيير الواقع، فيجب أن نكون جزءًا منه وجزءا من المعادلة، حتى نتمكن من التأثير فيه وإعادة تشكيله ديمقراطيًا. الوقوف خارج هذه الساحة يجعلنا مجرد متلقين للنتائج والإملاءات، دون القدرة على التأثير. خاصةً في أوقات الاضطرابات داخل النظام الدولي، كما هو الحال اليوم، حيث يمكن للدول الكبرى أو تلك الساعية إلى الهيمنة أن توسع نفوذها على حساب دول أخرى. هذه الديناميكية تنسجم مع مفهومي “الواقعية الهجومية” و”الواقعية الدفاعية” في العلوم السياسية.
الكاتب والسياسي: احمد مولاي
مقالات الرأي تعبر عن كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24

