يبدو أن السويد تمرّ اليوم بأكثر مراحلها حساسية، مرحلة لا تتعلق فقط بإعادة صياغة القوانين أو إصلاح المنظومات، بل بإعادة تعريف ما يعنيه أن تكون جزءاً من هذا المجتمع.
فبينما كان الأمل معقوداً على بناء بلد أكثر عدلاً ومساواة، تتجه البوصلة الآن نحو طريق يثير القلق: طريق رسمت معالمه سياسات مشددة، تُقدَّم على أنها “إصلاحية”، لكنها في العمق ترسّخ انقساماً اجتماعياً لا تخطئه العين.
من يراقب المشهد السويدي يلحظ أن الحكومة الحالية تتعامل مع ملف الهجرة وكأنه مفتاح الحل لكل مشكلات البلاد، متناسية أن المجتمع السويدي أوسع بكثير من ثنائية “نحن” و”هم”.
فالمواطنون السويديون أنفسهم يواجهون أزمات اقتصادية واجتماعية تتطلب التفات الحكومة، بدلاً من تركيز جلّ طاقتها على “تأديب المهاجرين” وتشديد القوانين عليهم، بل وحتى إقناعهم بالعودة الطوعية إلى بلدانهم، وكأن سنوات الكفاح التي قضوها في تعلم اللغة والعمل والاندماج لم تكن سوى تفصيل عابر في مسيرة هذا الوطن.
ويبدو أن البلديات السويدية بدأت تدرك هذا التركيز المفرط للحكومة على الأجانب، وهو تركيز لا يولّد سوى الشعور بعدم الترحيب واللاقبول. وعلى هذا الأساس، رفضت العديد من البلديات المشاركة في الاجتماعات التي دعا إليها المنسق الوطني الحكومي لشؤون “العودة الطوعية للمهاجرين”، معتبرة أن هذا الملف ليس من اختصاصها، بل إنه يعزز الانقسام بدلاً من معالجته.
لا شك أن البلاد تحتاج إلى إدارة حازمة وقوانين مواكِبة للواقع، لكن من المعيب أن يُختزل خطاب الحكومة في تحميل المهاجرين مسؤولية كل تعثر أو أزمة.
حين يصبح النقاش السياسي محصوراً في “المهاجر الجيد” و”المهاجر السيئ”، فنحن نغفل أن هذا التصنيف يزرع في الوعي الجمعي فكرة خبيثة، مُهينة للمهاجرين: أن كل مهاجر موضع شك حتى تثبت براءته.
بل إن المتابع للشأن العام قد يخال أن مشاكل السويد، من الجريمة المنظمة إلى أزمة السكن وبطء الخدمات، سببها الوحيد “المهاجرون”، وكأن البيروقراطية الثقيلة والتردد السياسي وسنوات التلكؤ في اتخاذ القرارات لم يكن لها دور في الوصول إلى هذا الواقع المعقد.
الجريمة لم تُولد في ليلة وضحاها، بل نمت على مرّ السنين، في ظل حكومات متعاقبة كانت منشغلة بالتوازنات أكثر من الإنجازات.
ومع ذلك، هناك مهاجرون كُثر يستحقون كلمة شكر وامتنان، لأنهم ساهموا في تحريك عجلة الاقتصاد والعمل في ظروف صعبة، وتحملوا مشقة الاندماج في مجتمع صارم بطبيعته، لا يمنح الثقة بسهولة.
لكن بدلاً من التقدير، تُزرع اليوم في الأذهان رواية جديدة: أن المهاجر هو مصدر الخلل، وأن الحل هو مزيد من التشديد والرقابة.
تلك هي البذرة الأولى لولادة مجتمع منقسم، تُعاد فيه صياغة المفاهيم الوطنية على أسس عرقية وثقافية، لا على قيم المساواة والعدالة التي كانت يوماً أساس النموذج السويدي.
وإذا كان البعض يرى أن ما يجري اليوم نتاج حكومة واحدة، فإن الحقيقة أوسع من ذلك.
فالأزمة الحالية هي نتيجة تراكم سياسات طويلة الأمد، فشلت في مواجهة التحديات مبكراً، وفتحت المجال أمام الأحزاب اليمينية المتشددة لفرض أجندتها الفكرية.
اليوم، لا يخفى أن حزب ديمقراطيو السويد (SD)، رغم أنه ليس جزءاً رسمياً من الائتلاف الحاكم، بات يوجّه دفة القرار السياسي، ويطبع الخطاب العام بطابع من الشك والتمييز العلنيين.
قد تتبدل الحكومات، وتتغير التحالفات، لكن ما بدأ اليوم من تحولات سياسية واجتماعية يصعب التراجع عنه غدًا.
فالقوانين التي تُسنّ، والخطابات التي تُلقى، والاتهامات التي تُزرع في الوعي الجمعي، تترك أثرًا أعمق من أي برنامج انتخابي. إنها تغيّر البنية الذهنية للمجتمع نفسه.
وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن يتحول الخوف من ” الآخر” من استثناءٍ إلى قاعدة، ومن رأيٍ سياسي إلى ثقافةٍ عامة.
عندها فقط، ستجد السويد نفسها قد ابتعدت عن صورتها التي طالما افتخرت بها بلد المساواة والعدالة الاجتماعية لتصبح دولةً تنظر إلى التنوع لا كقوة، بل كعبءٍ يجب التخلص منه.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد نقاش سياسي حول الهجرة، بل تحوّل عميق في هوية السويد.
وإذا استمر هذا المسار دون مراجعة، فقد يأتي يوم نكتشف فيه أن المجتمع الذي كنا نفاخر بتسامحه، أصبح مجتمعًا يخشى ذاته قبل أن يخشى الغرباء.
لينا نوري سياوش
مقالات الرأي تعبر عن كتابها وليس عن SWED 24

