في إحدى العيادات المشرقة في مدينة إسكلستونا، تجلس روز لفتة الزهيري بابتسامةٍ هادئة تشي بالقوة التي صنعتها التجارب. طبيبة الأسنان الشابة ذات الستة والعشرين ربيعاً لم تصل إلى هنا صدفةً، بل عبر طريقٍ طويل مليء بالتحديات، الألم، والإصرار.
رحلتها بدأت في بغداد، وبلغت ذروتها في السويد، حيث تحوّل الحلم الطفولي إلى واقعٍ يُضيء بابتسامات الآخرين.
بداية جديدة وحلم لم يمت
ولدت روز في بغداد عام 1999، ووصلت إلى السويد وهي في الثانية عشرة من عمرها. كان الانتقال إلى بلدٍ جديد بلغةٍ وثقافةٍ مختلفة صعباً، لكنها سرعان ما وجدت طريقها في صفوف تعليم اللغة السويدية، قبل أن تبدأ رحلتها الدراسية في الصف السابع.
تقول روز بابتسامة متأملة: “الاندماج في الحياة السويدية لم يكن سهلاً، لكني أؤمن بضرورة التوازن بين الثقافتين. أحاول دائماً أن أمزج بين ثقافتي العراقية والبيئة السويدية، وهذا المزيج هو ما صنع شخصيتي اليوم”.
وأضافت، موضحة: “كنت أؤمن أن لكل خطوة معنى. أردت أن أتعلم بسرعة لأبني لنفسي مستقبلاً في هذا البلد الجديد”.
غير أن القدر اختبرها مبكراً، ففي السابعة عشرة من عمرها فقدت والدها وهي في الصف الخامس العلمي، وهي حادثة تصفها بأنها غيّرت مجرى حياتها بالكامل.
تقول روز: “وفاة والدي كانت أصعب لحظة في حياتي، لكنها جعلتني أعد نفسي أن أجعل روحه فخورة بي. حوّلت حزني إلى دافع”.
وبالفعل، اجتهدت حتى حصلت على علاماتٍ متميزة أهلتها لدخول كلية طب الأسنان في جامعة أوميو شمال السويد، حيث قضت خمس سنواتٍ مليئة بالتحديات والعزلة، بعيداً عن عائلتها. لكنها تقول إن تلك الفترة “صقلت شخصيتها” ومنحتها الاستقلال والثقة بالنفس.

إنسانية المهنة… وابتسامات لا تُنسى
اختارت روز دراسة طب الأسنان لأنها كانت تحلم منذ طفولتها بمهنة تجمع بين الإنسانية والدقة اليدوية.
وحول ذلك، تقول روز:”أحب العمل الذي أستخدم فيه يديّ وأساعد الناس في الوقت نفسه. عندما تخفف ألم شخص، تشعر أن حياتك اكتسبت معنى جديداً”.
بعد تخرجها عام 2024، شاركت روز في مهمةٍ تطوعية مع منظمة “أطباء أسنان بلا حدود” في تنزانيا. هناك، كما تروي، اكتشفت المعنى الحقيقي للعطاء، قائلة: “رأيت أطفالاً يعانون من ألم في الأسنان منذ شهور، فقط لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى طبيب. عندما تخفف ألمهم وتشاهد ابتسامتهم بعد العلاج، تدرك أن كل التعب يزول”.
وفي عام 2025، عادت من رحلتها الثانية، وهذه المرة إلى قرى الفلبين، لتقديم الرعاية الوقائية والعلاجية للأطفال، وتوزيع فرش ومعجون الأسنان.
تقول روز عن تجربة الفلبين: “كانت التجربة مؤثرة جداً. مجرد رؤية الطفل يبتسم بعد أن كان يبكي من الألم، تشعر أنها لحظة أكبر من أي مكافأة مادية”.

بين السويد والعراق… هوية لا تنفصل
ترى روز أن العمل كطبيبة أسنان في السويد يختلف جذرياً عن البلدان الأخرى، بفضل التنظيم العالي والتقنيات الحديثة والاحترام الكبير للمهنة. لكنها تضيف: “في الأماكن التي زرتها تطوعاً، رغم قلة الإمكانيات، شعرت بتقدير الناس العميق. هذا الشكر البسيط من القلب يجعلك تدرك لماذا اخترت هذه المهنة”.
أما عن حياتها في السويد، فتؤكد أنها ما زالت تعيش بين ثقافتين: “أحاول دائماً أن أوازن بين ثقافتي العراقية وجو السويد. هذا المزيج هو ما صنعني كما أنا اليوم”.
طموح لا يتوقف
تطمح روز إلى إكمال تخصصها في مجال تركيب الأسنان (Protetiker / Prosthodontist).
توجّه رسالة للشباب المهاجرين، قائلة: “ابدأوا من الصفر، لا تيأسوا. الطريق ليس سهلاً، لكن بالإصرار والعمل يمكن تحقيق أي هدف”.
وحول ما تفتقده من بلدها العراق، تقول روز بإبتسامة: “أفتقد دفء العائلة والأقارب”.
وحول ما تفضله أكثر في السويد، تقول روز: “أكثر ما أحبه في هذا البلد هو إمكانية تحقيق أي حلم إذ ما اجتهد الإنسان وآمن بحمله”.
تترك روز انطباعاً لا يُنسى. ليست مجرد طبيبة أسنان ناجحة، بل قصة إصرار وحنين وإنسانية. رحلتها من بغداد إلى شمال السويد، ومن القاعات الجامعية إلى القرى الفقيرة في إفريقيا وآسيا، تروي حكاية إنسانة اختارت أن تُعيد للعالم شيئاً من الابتسامة التي منحتها الحياة لها ذات يوم.

