رأي/ حين تهمس الحياة بتبدّل الطعم، لا يكون الأمر مجرد نكهة فقدت حدّتها، بل هو إشعار بأن الزمن تغيّر، ونحن كذلك.
“لماذا لم أعد أشعر بلذة عصير البرتقال الذي تعودت شربه في طفولتي؟”، تسألني ابنتي، بنبرة شوق خفي، كأنها تسأل عن ذاك الطعم المفقود أو عن البراءة التي تسربت من القلب. أجبتها بهدوء مَن يعرف: “كبرتِ يا صغيرتي… وما تغيّر هو إحساسك، لا البرتقال”.
تماماً كهذا العصير، تُفقدنا الحياة شيئاً فشيئاً دهشة التذوق الأولى: تلك المتعة الخام التي لا تُعاد. هكذا هي الأحلام. في الطفولة، نحلم ببساطة وشغف، نخطّ الأمنيات بخطوط سميكة وقلوب مفتوحة. نصدق أن العالم لنا، وأن الطريق إليه مفروش بالإرادة فقط وأن هناك بالضرورة عدالة تعطي كل ذي حقٍ حقه. تفكير مُتعثر، لكنه جميل كلحن ناي هادئ على شاطئ بحر بعيد.
مع كل خطوة في العُمر، يتبدل الذوق، ويتحول الحلم من بريق ساحر إلى ضوء خافت في الأفق. لا لأنه مات، بل لأننا تغيّرنا. نحمل على ظهورنا أثقال التجربة، ونقيس أحلامنا لا بقدر جمالها، بل بمدى واقعيّتها.
في العشرينات، نتذوق الأحلام كما نتذوق أول حب، نركض خلفها بحماسة مفرطة ونظن أن الوقت لا نهاية له. لكن مع تقدم السنين، تبدأ الأحلام بالتزاحم مع الواجبات، وتذوب ألوانها في زحام الأيام، حتى تصبح بعضها مجرّد صور مؤطرة في الذاكرة، لا نملك الوقت لمطاردتها، ولا الجرأة على دفنها.
في الثلاثينات والأربعينات، لا نعد نركض بذات الخفة. تصبح الأحلام مؤجلة على هامش الراتب، والتزامات البيت، والخوف من الفشل. نحملها معنا، نراها من بعيد، ونتمناها بصمت. أحياناً نمسك بها طويلاً قبل أن نفلتها، لا لأننا لم نعد نؤمن بها، بل لأن هناك شيئًا أثقل يجب أن نحمله.
الحلم الحقيقي لا يموت، بل يُبدّل ملامحه
في الخمسينات وما بعدها، لا تموت الأحلام، بل تتحول إلى بوصلة داخلية. لا نبحث فيها عن مجد خارجي، بل عن سلام داخلي. ربما لا نركض كما في البدايات، لكننا نعي جيداً أي حلم يستحق الركض. تصبح الأحلام أهدأ، لكنها أعمق، تُشبه أشجاراً نعرف تماماً أين نزرعها، لا لأننا يئسنا من الزهر، بل لأننا عرفنا كيف نروي الجذور. يتحوّل من رغبة شهرة إلى شغف تأثير، من سعي خلف المجد إلى سكينة الاكتفاء. كأن الحلم أيضاً ينضج معنا، او تتغير ملامحه، ليصبح أكثر هدوءًا، أقل بهرجة، لكنه أصدق.
صحيح أن للأحلام مواسم، لكن ليس بالضرورة أن تزهر جميعها في ربيع العمر. بعضها يحتاج لخريف التأمل لينضج، وبعضها لا يزهر أبداً لكنه يظل بذرة أمل تمنحنا سبباً للوقوف كل صباح.
ولأننا لا نملك طاقة لا نهائية للحلم، يصبح من الحكمة أحياناً أن نُراجع أحلامنا: ما الذي ما زال يُشبهنا؟ ما الذي كبرنا عليه أو تجاوزه الزمن؟ فبعض الأحلام يُخلق ليظل، وبعضها كان جميلًا فقط لأنه وُلد في لحظة معينة. وبعضها يُشبه الحذاء الضيق: جميل المظهر، لكنه يوجع بعد مسير طويل.
هناك أحلام، رغم كل شيء، لا تهرم. تبقى حيّة فينا، تتنفس تحت الرماد، تنتظر فرصة، لا لتتحقق كما حلمناها، بل كما نحتاجها اليوم.
للأحلام أعمار كالورد. منها ما يزهر في أول الضوء، ومنها ما يحتاج لعمر كامل. لكنها جميعاً، ما دمنا نرويها، تظل قادرة على الحياة. والحياة، بلا حلم، ليست إلا زمناً فائضاً.
احلموا كما تتنفسون، وامنحوا أحلامكم أشكالاً جديدة إن ضاعت القديمة. وإن فقدتم طعم عصير البرتقال كما عرفتموه، لا تنسوا أنكم ما زلتم قادرين على تذوق الحياة بشكل مختلف… إن اخترتم أن تحلموا. لأن الإنسان لا يشيخ حين تتقدّم به السن، بل حين يتوقّف عن الحلم.
لينا سياوش
مقالات الرأي تعبر عن كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24