رأي: في البدء، لم يكن الإنسان سوى كائن يتصارع مع الطبيعة، يقتات من فريسته النيئة ويعيش بلا قيمة ولا ضابط، تماماً كأي كائن آخر في الغابة. القفزة الكبرى التي فصلت الوحش عن الإنسان، لم تكن اختراع النار أو اكتشاف الزراعة، بل لحظة قرر فيها أن يُخضع نفسه لقانون.
قانون لا يُصاغ بقوة السلاح، ولا تُكرّسه غلبة الطائفة أو العشيرة، بل يُبنى داخل مؤسسات شرعية تُحاسب وتُحاسَب، ويُطبق على الجميع بلا استثناء.
من هنا فقط تبدأ الحضارة. ومن هنا فقط يُصاغ الإنسان من جديد.
في الدول التي تُدار بمنظومات ديمقراطية دستورية راسخة، لا تصنع القوانين فقط نظاماً سياسياً عادلاً، بل تُعيد تشكيل الإنسان نفسه: تفكيره، سلوكه وإحساسه بذاته. المواطن هناك لا يُمنح حقوقه لأن له واسطة أو ينتمي لحزب نافذ، بل لأنه مواطن، مجرد مواطن وهذا كل شيء.
أما في بعض الأنظمة التي تُدار خارج إطار المؤسسات، وتعتمد على الولاء والمحسوبية بدل القانون، فإن الفرد يتحوّل إلى مجرد رقم في معادلة سلطوية، تُهمّش قدراته وتُقيّد حرياته، وتحول دون أي فرصة حقيقية للنمو أو المشاركة. ما يُنتج شعوباً لا تعاني فقط جوع الخبز، بل جوع الوعي والتنمية الذاتية، حيث تُغيب فرص التعليم والتفكير الحر، ويتحوّل المجتمع إلى كتل تابعة، سهلة الانقياد، تُوجَّه إرادتها من قبل من لا يملكون مشروعاً وطنياً، بل يسيرون بها وفق مصالح ضيقة وأجندات ضبابية.
ولعل المفارقة التي تصفع المنطق هي أن الفارق بين المواطن في الغرب والمواطن في الشرق، ليس فطرياً ولا جينياً ولا بيولوجياً، بل هو فارق في النظام. الدراسات العلمية لم تثبت يوماً أن هناك تفاوتاً في الذكاء الفطري بين الشرق والغرب. بل إن الإنسان في كل مكان يُولد بذات التركيب الذهني، لكن النظام الذي ينشأ فيه هو ما يصنع الفارق في النتيجة. دولة القانون تُنتج عقلاً ناقداً، مبدعاً، مستقلاً. أما دولة الميليشيا فتُنتج خائفاً، تابعاً، هشاً.
في مجتمعات القانون، لا يحتاج الفرد إلى عشيرته ليضمن دواءه أو تعليم أطفاله أو حقه في الوظيفة. القانون وحده كفيل بذلك. أما في دول اللا قانون، حيث تنهار المؤسسات، يتراجع الفرد إلى ملاذات ما قبل الدولة: الطائفة، العائلة، الزعيم.
وهنا يصبح العُرف هو المرجع، لا النص القانوني. والسلاح هو الحكم، لا القاضي.
الفساد ليس سلوكاً محصوراً بثقافة أو جغرافيا دون أخرى. فالجشع ميل بشري طبيعي، ووجود القانون نفسه هو دليل على الحاجة لضبط هذه النزعة وتنظيمها. ما يميز الدول المتقدمة هو أنها تمتلك آليات مؤسسية رادعة، تطال الجميع بلا استثناء. من رئيس الوزراء إلى عامل النظافة، الكل سواسية أمام المحكمة. في الغرب، لا أحد فوق القانون، ولهذا يتصدر السارق أو الفاسد عناوين الصحف لا غرف الاجتماعات. ينال جزاءه وتسقط نزاهته، ما يعني انهيار مصداقيته، وهو أمر له عواقبه لدى شعوب القانون.
لا يُقاس رقي الدول بعدد قطاراتها السريعة ولا بعلو ناطحات السحاب ولا بمشاريعها الاستهلاكية العملاقة، بل بمدى ترسّخ شعور مواطنيها بالعدالة والمساواة أمام القانون. حيث الكرامة لا تُمنح كهبة من سلطة، بل تُصان بحق منصوص عليه ومحمي بمؤسسات مستقلة.
ما يحدث في الدول المتقدمة ليس معجزة، ولا نتاج عبقرية خارقة. هو ببساطة ما يحدث حين تُبنى الدولة على مؤسسات لا أفراد، على سيادة القانون لا شهوة السلطة. وهي تجربة لا تحتاج إلا إلى إرادة سياسية حقيقية، وشجاعة في مواجهة البُنى المتعفنة التي تحول المواطن إلى تابع، والبلاد إلى غنيمة.
ليست الحضارة وجهاً جميلاً للعمران، بل وجهاً صلباً للعدالة. الإنسان لا يُولد مثقفاً ولا نزيهاً، بل يُصاغ في بيئة تحكمها القوانين لا الفوضى، تُقدّس المواطنة لا التبعية. وعندما يشعر الفرد أن لا سلاح فوق رأسه، ولا حزب يُملي عليه وجوده، ولا عشيرة تسبق صوته، عندها فقط… يولد الإنسان. حقاً.
بقلم: لينا سياوش
مقالات الرأي تعبر عن رأي كُتابها وليس بالضرورة عن SWED 24