رأي: مع اقتراب نهاية العام الدراسي، يبدأ كثير من الطلاب والمعلمين في التفكير بعمق. ما الذي أنجزناه؟ ماذا يبقى معنا بعد أن تنتهي الحصص وتُعلن النتائج؟ في هذا الوقت من العام، وجدت نفسي أطرح سؤالًا بسيطًا لكنه مهم: ما معنى التعليم؟ ما قيمته الحقيقية؟
عندما أسأل هذا السؤال، أسمع من كثيرين أن المواد الدراسية تحمل قيمة عميقة، حتى إن لم نتذكر كل التفاصيل لاحقًا. ربما ننسى القوانين والمعادلات، لكن الطريقة التي تعلمنا بها، والنقاشات التي خضناها، والمشاريع التي عملنا عليها، كل ذلك يترك أثرًا في شخصياتنا.
أحيانًا أُشبّه هذا التأثير بالإنزيمات في جسم الإنسان. الإنزيمات هي مواد صغيرة لا نراها، لكنها ضرورية لجعل كل شيء في الجسم يعمل. من دونها، لا يتم الهضم، ولا ينتج الجسم الطاقة، ولا تتحرك الخلايا بالشكل الصحيح. هكذا أيضًا المواد الدراسية. قد لا نتذكرها بالكامل، لكنها تغذّي عقولنا بطريقة غير مرئية. تساعدنا على التفكير المنطقي، على فهم العلاقات بين الأشياء، وعلى حل المشكلات في حياتنا اليومية. حتى طريقة تنظيم الوقت أو الصبر في الدراسة، هذه عادات تتكوّن مع الزمن وتبقى معنا مدى الحياة.
في هذا الوقت أيضًا، نراجع موضوع العلامات. كثيرون يربطون النجاح بالدرجات، ويظنون أن الأرقام على الورقة تحدد من نحن. لكن الحقيقة أوسع من ذلك. العلامات مهمة في بعض المواقف، وقد تفتح أبوابًا معينة، لكنها لا تصنع المستقبل وحدها. ما يصنعه هو ما نفعله بما تعلمناه، وكيف نستخدمه لخدمة الآخرين.
من المثير أن نعلم أن عددًا من العلماء الذين فازوا بجائزة نوبل لم يكونوا من المتفوقين في مدارسهم. بعضهم عانى من ضعف في العلامات أو صعوبات في التعليم التقليدي، لكنهم لم يتوقفوا عن التعلّم الحقيقي، ولا عن طرح الأسئلة الكبيرة. هم لم يُقاسوا بما كُتب في شهاداتهم، بل بما قدموه للبشرية من أفكار واكتشافات غيرت العالم. هؤلاء العلماء يذكّروننا بأن الإبداع والعبقرية لا ترتبط دائمًا بالدرجات، بل بالشغف، والإصرار، والرغبة في المساهمة.
التعليم ليس فقط لتحصيل الوظيفة أو الشهادة. هو أداة لبناء إنسان يفكر بعمق، يتعامل مع العالم بإحساس، ويبحث عن حلول تفيد مجتمعه. كما يُقال في بعض البرامج التعليمية التي شاركت بها، لا نتعلم كي نُظهر معرفتنا، بل كي نستخدمها من أجل الخير. المعرفة تصبح ثمينة عندما توجَّه نحو هدف نافع، عندما تُستخدم لإزالة المعاناة، أو لابتكار شيء جديد، أو لتقوية العلاقات بين الناس.
في مراحل الطفولة والمراهقة، يكون التعليم أكثر من مهم. هو الأساس الذي تُبنى عليه شخصية الفرد. المدرسة ليست فقط مكانًا نحفظ فيه معلومات، بل مكانًا تنمو فيه الأخلاق، وتُصقل فيه المهارات، وتُغرس فيه روح الخدمة والعمل الجماعي.
وهنا أفكر بما كان يقوله بعض المفكرين عن التعليم: إن العالم لا يحتاج فقط إلى عباقرة في الرياضيات والعلوم، بل يحتاج إلى من يستخدم هذه المعرفة ليصنع فرقًا. يحتاج إلى من يبني، ويعالج، ويقود، ويبتكر من أجل الجميع، لا من أجل الربح فقط. هذا النوع من التعليم لا يُقاس فقط بالعلامات، بل بالتأثير الذي نتركه في حياة الناس.
التفكير في نهاية العام لا يجب أن يكون فقط عن النجاح أو الرسوب. يمكن أن يكون أيضًا عن التحول الداخلي. هل أصبحنا أكثر وعيًا؟ هل اكتسبنا مهارات تساعدنا في الحياة؟ هل فهمنا أنفسنا والآخرين بشكل أعمق؟ هذه هي الأسئلة التي تستحق التأمل.
المنهج الخفي في الحياة لا يُكتب في كتاب، ولا يُمتحن في ورقة. هو موجود في الطريقة التي نُعامل بها زملاءنا، في الطريقة التي نرد بها على التحديات، وفي القرارات الصغيرة التي نتخذها كل يوم. التعليم الحقيقي هو الذي يفتح العقول، ويُضيء القلوب، ويجعلنا نحلم بعالم أفضل ونعمل من أجله.
بقلم: د. زياد الخطيب
مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24